بعد أربعة أشهر على إعلان الولايات المتحدة انسحابها من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، بدأت ملامح توازنات جديدة تفرض نفسها داخل المؤسسة الأممية، مع تقدم واضح للصين وتعزيز ملحوظ لحضور دول الجنوب العالمي.
خلال المؤتمر العام للمنظمة المنعقد هذا الشهر في مدينة سمرقند بأوزبكستان، بقي المقعد الأميركي شاغرا، رغم أن قرار الانسحاب لن يصبح نافذا قبل نهاية 2026. لكن واشنطن أوقفت عمليا مشاركتها منذ يوليو الماضي، متهمة اليونسكو بـ”التحيز ضد إسرائيل” و”الترويج لأجندة اجتماعية مثيرة للانقسامات”، وفق خطاب إدارة الرئيس دونالد ترامب.
الخطوة لم تكن مفاجئة. فالولايات المتحدة انسحبت من اليونسكو سنة 2018 خلال ولاية ترامب الأولى، قبل أن يعيدها الرئيس الديمقراطي جو بايدن عام 2023. غير أن أثر الانسحاب هذه المرة يبدو أعمق، خصوصا بعد أن تراجعت مساهمة واشنطن في ميزانية المنظمة من 20% سابقاً إلى 7% فقط.
ميزانية في صلب التحدي
رغم الجهود التي بذلتها المديرة العامة المنتهية ولايتها أودري أزولاي لتقليص الاعتماد على التمويل الأميركي، فإن غياب الولايات المتحدة يحرم المنظمة من أكثر من 75 مليون دولار. لذلك، جعل المدير العام الجديد، المصري خالد العناني – المنتخب بـ172 صوتاً من أصل 174 – من ملف التمويل أولوية قصوى، واعداً بتعبئة مساهمات إضافية من الدول الأعضاء واستقطاب شركات القطاع الخاص.
دبلوماسي إفريقي يرى أن الانسحاب الأميركي لعب دوراً في انتخاب العناني: “اعتبرته الدول قادراً على حشد موارد جديدة وتجاوز الأزمة”.
مع انسحاب واشنطن، برزت الصين كممول أول لليونسكو، بمساهمة بلغت 69 مليون دولار. وتوضح المؤرخة كلويه موريل، مؤلفة كتاب “تاريخ اليونسكو”: “الصين تموّل الآن أجزاء كاملة من برامج المنظمة، مثل مجلة بريد اليونسكو. وهي تستخدم المنظمة كأداة من أدوات القوة الناعمة”.
ومنذ انسحاب الولايات المتحدة عام 2018، سارعت بكين إلى شغل الفراغ داخل هيئات المنظمة عبر إرسال المزيد من الخبراء والموظفين.
يقول عضو في وفد أوروبي: “هناك صينيون اليوم في كل دائرة داخل اليونسكو تقريباً”.
الولايات المتحدة كانت ترى في وجودها داخل المنظمة عاملاً ضرورياً لـ”موازنة النفوذ الصيني”، خصوصاً في ملفات الذكاء الاصطناعي والمعايير الأخلاقية لاستخدام التكنولوجيا. لكن غيابها عن مناقشة النصوص المرجعية – مثل اتفاق 2021 حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، وأحدث نص حول ضوابط التكنولوجيا العصبية – ترك المجال مفتوحاً لبكين.
تمدد روسي… لكن دون شعبية
في ظل الغياب الأميركي، تزداد قدرة روسيا وحلفائها – مثل بيلاروس ودول آسيا الوسطى – على التأثير. لكن نفوذ موسكو يبقى محدوداً سياسياً، خصوصاً منذ بدء حربها على أوكرانيا في فبراير 2022.
وقد ظهر ذلك بوضوح مع فشلها مجدداً في الفوز بمقعد في المجلس التنفيذي (58 عضواً)، للمرة الثانية بعد 2023. غياب الولايات المتحدة لم يمنح الصين وروسيا فقط مجالاً أوسع، بل أعاد ترتيب التوازنات لصالح دول الجنوب العالمي: أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وآسيا. وقد أكد دبلوماسي إفريقي: “هناك طموحات متزايدة داخل الجنوب العالمي. الانتخابات الأخيرة كشفت تغيرات فعلية في موازين القوى”.
ومن اللافت أن اليونسكو تشهد لأول مرة انتخاب مدير عام من دولة عربية، إلى جانب تجديد منصب رئيس المؤتمر العام الذي تولاه البنغلادشي خوندكر طلحة. كما يُتوقع فوز القطري ناصر حمد الحنزاب برئاسة المجلس التنفيذي.
فرص مالية جديدة لكبار المساهمين
مع انسحاب واشنطن، تتجه دول كبرى مثل الهند، البرازيل، ودول الخليج إلى زيادة مساهماتها لتعزيز وزنها داخل اليونسكو. هذا التحول المالي قد يعيد رسم خريطة النفوذ داخل المنظمة خلال السنوات المقبلة.
بخروجها من المنظمة، تخاطر الولايات المتحدة بفقدان تأثيرها في أحد أهم الملفات: قائمة التراث العالمي. مصدر قريب من الوفود المشاركة قال: “هناك حديث متزايد عن أن واشنطن تعتمد سلوكاً أقرب إلى القرصنة: لا تريد العمل داخل المنظمات المتعددة الأطراف، لكنها تريد الاحتفاظ بمكاسبها”.
انسحاب الولايات المتحدة يفتح الباب أمام إعادة صياغة عميقة لموازين القوى داخل اليونسكو. الصين تتقدم، والجنوب العالمي يعزز حضوره، فيما تجد واشنطن نفسها خارج دائرة صنع القرار في مؤسسة تشرف على التراث العالمي، التعليم، الثقافة، ومعايير الذكاء الاصطناعي… وهي ملفات سترسم ملامح النظام الدولي خلال العقود المقبلة.