مصطفى عنترة
يكتسي موضوع تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، وكيفيات إدماجها في مجال التعليم وفي مجالات الحياة العامة ذات الأولوية، راهنيته المستعجلة لدى عموم الديمقراطيين، وخصوصا المدافعين عن الحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية.
ولهذا بدأت مجموعة من الأصوات السياسية والمدنية، التي دعمت بالأمس القريب حكومة عزيز أخنوش، تتعالى في كل مناسبة لتوجه سهام النقد بسبب البطء الذي تتسم به وتيرة تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، سيما وأنها ترى أن كل الشروط متوفرة أمامها في ظل رعاية ملكية لورش الأمازيغية، ووجود ترسانة قانونية هامة، وإلتزام سياسي صريح من قبل حكومة قدمت نفسها كبديل عما سبقها طيلة العشر سنوات الأخيرة، وتحديدا حكومة تصدرها حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية، ورفعت شعار المنقذ للهدر السياسي الزمني الذي عاشه ملف الأمازيغية منذ التصويت على الوثيقة الدستورية سنة 2011.
لكن نعتقد أن السرعة التي تسير بها وتيرة تفعيل الطابع الرسمي ترجع في رأينا لأسباب موضوعية، مرتبطة أكثر بالبنيات السوسيو – ثقافية للمجتمع المغربي. كيف ذلك؟
فمشكل الأمازيغية يعود إلى طبيعة البنيات المشار إليها. ومن المعلوم أن الدولة المغربية بعد الاستقلال ظلت وفية لروح قراءة الحركة الوطنية لما أصطلح عليه خطأ بـ”الظهير البربري” الموروث عن الحقبة الكولونيالية، إذ تم وضعها على الهامش لكونها لا تدخل ضمن أولويات بناء “الدولة الوطنية”، وهكذا تم إعتماد سياسات عمومية لا مكان فيها للأمازيغية، بل الأكثر من ذلك اتخذت الدولة سياسات استهدفت من خلالها تعريب التعليم وتعريب الحياة العامة.. كاستمرار لسلوك تستهدف من خلال إزالة آثار المستعمر من مؤسسات الدولة والمجتمع.
يتمثل العامل الثاني في سلوك السلطة السياسية الذي واجه كل مطلب يروم الاعتراف بالثقافة الأمازيغية. فالتوجه العروبي للملك الراحل الحسن الثاني، وخاصة سعيه إلى لعب أدوار هامة في ملف الصراع في الشرق الأوسط، و سحب بساط حماية اللغة والثقافة العربيتين عن الحركة الوطنية، كان لها الدور المركزي في التصدي لكل ما من شأنه التشويش على منظوره السياسي واختياراته الاستراتيجية في بناء مؤسسات الدولة. ومن هنا نفهم ضريبة التهميش التي تعرض لها الفاعل الأمازيغي عبر سنوات، قبل أن تأتي عوامل وطنية وأخرى إقليمية ودولية لعبت دورها في الرفع التدريجي لتهميش الثقافة الأمازيغية خلال سنوات التسعينات من القرن الماضي.
أما العامل الثالث، فيمكن تفسيره في التأثير الذي مارسته سلطة المقدس اليومي على الثقافة الأمازيغية، وهو تأثير سلبي جاء نتيجة قراءات إيديولوجية أبطالها ينتمون لتيار “الإسلام السياسي”، أضفت طابع القداسة عن اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن الكريم، واعتبرت أن الامازيغية تدخل ضمن مخططات التجزيء التي يغذيها العالم الغربي. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن مثقفين كبار أمثال الراحل محمد عابد الجابري، صاحب مشروع “نقد العقل العربي”، ذي الأصول الأمازيغية، سار على نفس الدرب منتقدا في طروحاته المكون الثقافي المشترك، لتتحول كتاباته إلى مرجع للاتجاهات المعادية للثقافة الأمازيغية.
هكذا شكلت هذه العوامل مجتمعة بنيات سيوسيو- ثقافية للدولة المغربية تقوت مع توالي العقود في مقاومة أي فعل يهدف إلى إعطاء الأمازيغية مكانتها داخل مؤسسات الدولة والمجتمع، وبالتالي حلت هذه البنيات محل الجهات “العروبية” وبعض تيارات “الإسلام السياسي” في عملية مقاومة الثقافة الأمازيغية.
نعتقد أن أمر تفكيك هذه البنيات المستعصية بدأ فعليا خلال العقدين الأخيرين، أي منذ أن اعتبر الملك محمد السادس أن النهوض بالأمازيغية مسؤولية وطنية، واعتبرها دستور المملكة رصيدا مشتركا لجميع المغاربة بدون استثناء. وتطور هذا الوضع بعد تمتعها بالحماية الدستورية والمؤسساتية والشروع في مسلسل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية في المجالات المحددة لها من قبل القانون التنظيمي ذي الصلة، وبلغ هذا الأمر نضجه في محطة الاعتراف بالسنة الأمازيغية كيوم عطلة وطنية رسمية مؤدى عنها.
لكن بالرغم من هذه التحولات الجوهرية التي عاشها المغرب منذ بداية الألفية الجديدة على مستوى ورش الأمازيغية، مازالت هذه البنيات المستعصية تقاوم الثقافة الأمازيغية، وبالتالي يستوجب الأمر مزيدا من الوقت، لأن الإقصاء والتهميش الذي عرفته طيلة عقود من الزمن لا يمكن محو آثاره في سنوات قليلة.
فهذه البنيات السوسيو – ثقافية التي قاومت الأمازيغية لعقود، وتنكرت لمكون أساسي في الهوية الوطنية والشخصية المغربية، تحتاج لسنوات ولجهود مضاعفة لتفكيكها وإعادة مصالحتها مع هذا الموروث الثقافي الهوياتي.
وعموما فإن رهان المرحلة الحالية يتطلب من الفاعل الأمازيغي استيعاب هذه اللحظة التاريخية وما تتطلبه من وعي ورؤية مستقبلية، من خلال الانتقال للعب دور قوة إقتراحية حقيقية تدعم الحكومة في هذا الورش الوطني الهام، وشريك فاعل مواكب لجهودها في سبيل أجرأة سليمة وديمقراطية للدستور، سواء في الشق الهوياتي أو فيما يتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية أو في الجانب المرتبط بإخراج “المجلس الوطني للغات والثقافة المغربية” إلى النور باعتباره مؤسسة دستورية تضطلع بمهمة اقتراح التوجهات الاستراتيجية للدولة في مجال السياسة اللغوية والثقافية، والسهر على انسجامها وتكاملها.